أحوال نقابية | عفوا...إنك لا تملك الحقيقة المطلقة
بقلم/ محمد حسن عايد المحامي بالنقض
موضوعنا في هذا المقال يدور في فلك مفهوم فضفاض واسع، هو الحقيقة، تلك الغامضة التي "يمتلكها" المسلم واليهودي والنصراني والبوذي والهندوسي والزرادشتي، ويعرفها الإسلامي والعلماني واليساري والليبرالي، هي نفسها التي "تحيطها علما" كل الملل والنحل والإيديولوجياقبل الخوض في النقاش لابد من إطلالة بسيطة على مفهوم هذا المصطلح. يعرف لنا الفيلسوف الفرنسي "أندريه لالاند" الحقيقة بأن لها خمس دلالات:
موضوعنا في هذا المقال يدور في فلك مفهوم فضفاض واسع، هو الحقيقة، تلك الغامضة التي "يمتلكها" المسلم واليهودي والنصراني والبوذي والهندوسي والزرادشتي، ويعرفها الإسلامي والعلماني واليساري والليبرالي، هي نفسها التي "تحيطها علما" كل الملل والنحل والإيديولوجياقبل الخوض في النقاش لابد من إطلالة بسيطة على مفهوم هذا المصطلح. يعرف لنا الفيلسوف الفرنسي "أندريه لالاند" الحقيقة بأن لها خمس دلالات:
الأولى هي: الحقيقة هي خاصية كل ما هو حق.
الثانية: الحقيقة هي القضية الصادقة.
الثالثة: الحقيقة هي ما تمت البرهنة عليه.
الرابعة: الحقيقة هي شهادة الشاهد عما رآه أو ما سمعه.
الخامسة: الحقيقة هي الواقعت والأحزاب والمذاهب والمدارس وكل فئة، كلهم يملكون الحقيقة
ومن خلال التعريفات السابقة، قد أضع قمسين للحقيقة، قسم متعلق بالمحسوسات وآخر بالغيبيات، وكلاهما يحوي أمورا مطلقة وأخرى نسبية، المطلقة في القسمين مثل الرياضيات وغالبية العلوم، ووجود خالق وجنة ونار. الأولى يمكن التوصل إليها بالتجربة والثانية يمكن معرفتها من خلال صورة هذا العالم باعتبارها جوهره، كما أشار إلى ذلك أريسطو، حين ربط بين معرفة حقيقة العالم المثالي بمعرفة العالم الواقعي الذي هو صورة للأول
الحقيقة السابقة، والتي قد يشير إليها البعض بأنها أم الحقائق وهي معرفة وجود الله، خالق هذا العالم الفسيح وموجده، وهي محل اتفاق كل الديانات، وما دونها فإن الأمور ستصبح عبارة عن حقائق محل نقاش بين الجميع، كل يمتلك تصورا للحقيقة ويعتقد أنه صاحبها وما عداه فهو باطل.
إن وهم امتلاك الحقيقة المطلقة عندنا نحن يخفي عنا كثيرا من المعارف، الاستعلاء والتكبر على الغير يهلك صاحبه.
الحقيقة التي يراها المعارض السياسي على أنها لا تقبل النقاش، ويعتقد أنها واضحة وضوح الشمس وأن ظلم الرئيس لا يحتاج لأدلة، قد تكون لدى البعض مجرد "هرطقات"، وكلام عاري من أي صحة، والاحتاجات التي يظنها عدد كبير من الناس أنها واجبة وضرورة ملحة للمطالبة بالحقوق، هي عند آخرين مجرد صراخ لا يغني ولا يسمن من جوع، وعند فئة أخرى تحريضا ومحاولة لتخريب البلد، هي حقائق متكاملة الأركان عند الطرفين، وكلاهما يملك الأدلة الكافية التي تجعل منها حقيقة، بل حتى شخصيتك أنت سيدي القارئ، الحقيقة التي يعرفها الناس عنك ويظنونها قطعية، غير التي أنت تعلمها عن نفسك
حقيقة الغيبيات (الميتافيزيقيا)، لا يملكها إلا الله، وكل ما يوجد لدينا على أساس أنه حقائق ليس سوى أفهام للناس، وآراء من هناك وهناك، متناثرة على جنبات طريق طويل
الأساس الثالث
عدم احتكار الحقيقة المطلقة.. وإتقان آداب الاختلاف
لكي يقوم مبنى الموضوعية في الفكر الإسلامي المعاصر لابد من أساس ثالث، وهو انطلاق البحوث والدراسات والمناقشات والمثاقفات والمناظرات والحوارات من مُسَلَّمـة لا تقبل المراجعـة، وهي أن امتلاك الحقيقة المطلقة لا تكون إلا لله، فهو وحده صاحب القدرات المطلقة، أما الإنسان فمهما أوتي من عقل وفكر وتجارب، فإنه يظل نسبياً في تفكيره، نظراً لمحدودية قدراته وحواسه.
وقد اشتهرت مقولة الإمام مالك، رحمه الله: «أن كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر»، وأشار إلى قبر النبي رضي الله عنه . وقد عرفنا أن عصمة النبي رضي الله عنه تأتي من نزول الوحي عليه، بمعنى أنه عندما يجتهد بعيداً عن الوحي فإن بشريته كانت تؤثر عليه في بعض المواقف، التي نزل القرآن يسدده ويقوِّمه فيها، فإذا كان هذا حال الرسول رضي الله عنه وهو في قمة هرم الكمال البشري، فكيف بغيره من الناس؟
ومن استقراء شيخ الإسلام ابن تيمية لمقولات ومواقف علماء المسلمين الذين سبقوه، خرج بنفس مقولة الإمام مالك، حيث قال: «اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله»( ) .
1- القرآن والتأسيس لنسبية الحقيقة:
في قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (البقرة:219)، حرم الله الخمر والميسر تحريماً قطعياً، والله لا يحرم إلا الخبائث التي تضر بالإنسان في مبناه المادي وقوامه الروحي، ومع هذا التحريم القاطع فإن هذه الآية حملت في مضمونها رسالة فكرية ضخمة إلى قارئ القرآن، وهي اعتبار النسبية وعدم وجود الشر المحض في النظر إلى الأشياء والأشخاص، إذ ليست كل مفردات الخمر والميسر إثماً بل فيهما مفردات نافعة، لكن هذه المفردات أقل من مفردات الضرر، وعلى ذلك فإن التحريم محمول على الأغلب الأعم.
هذه المفردات النفعية القليلة في الخمر والميسر يوجد مثلها في سائر المحرمات الأخرى، ولذلك عندما توجد ضرورة كبيرة فإن تناول هذه المحرمات قد يصل إلى درجة الوجـوب، فإن الفقهـاء يقررون أن الإنسان إذا عطش واقترب من حافة الموت ولـم يكن معه إلا خمراً وجب عليه شرب ما يمنعه من الموت، وإذا كاد أن يمـوت من الجوع ولم يوجد معـه إلا ميتة أو لحم خنزير أو غيرهما من اللحوم الميتة، وجب عليه أن يأكل ما يسد الرمق ويحفظ الحياة. ( ) ولا نريد هنا أن ندخل في تفاصيـل الحكم الفقهي، وإنما نود الإشارة إلى خلفيته الفكرية، حيث النسبية حاضرة بقوة، فما كان ضاراً وحراماً في موقف صار نافعاً وحلالاً في ظرف آخر، نظراً لأن البديل سيكون أسوأ وهو هلاك الإنسان، وهنا تُرتكب المفسدة الصغرى لدرء المفسدة الكبرى.
هذا الحكم الفقهي هو درس فكري للمسلم عندما يتعامل مع غيره، ومهما كان شر هذا (الغير) فإن في ثناياه بعض مفردات الخيرية التي يجب أن يعترف بها المسلم، وأن لا يبخس صاحبها إياها، وأن يستفيد منها إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
وإذا كانت هذه النسبية موجودة في الشر والإثم (الخمر والميسر) أو في الكفر والنفاق، فمن باب أولى أن تكون حاضرة بقوة في الطوائف والجماعات والمذاهب والفرق التي تنتسب إلى عالم المسلمين.
وهكذا، فإن ذكر المنفعة في سياق تحريم اثنتين من الكبائر في القرآن الكريم، لابد أن الغرض منه هو إيصال هذه الرسالة الفكرية الحاثة للمسلمين على حرمة الإطلاق ووجوب التدقيق في خصائص الأشياء، وعدم التعامل معهـا دوماً بالأحـكام الحـدية، التي لا تعرف إلا الحِل أو الحرمة، الحب أو الكره، البياض أو السواد، القبول المطلق أو الرفض الكامل.
قال الفيلسوف مراد وهبة، إن من يزعم أن هناك أشخاص يملكون الحقيقة المطلقة «وهم»، حيث لا توجد حقيقة مطلقة، وهذه ظاهرة يجب دراستها، موضحًا أن كافة الأصوليات الدينية زعمت أنها تملك الحقيقة المطلقة ثم بعد ذلك تقوم بأعمال إجرامية وتقتل المواطنين ومن هنا نشأ الإرهاب.
وأضاف وهبة، خلال حواره في برنامج «نطق فكرا»، مع الإعلامي عمرو عبد الحميد، على شاشة «TeN»، أن الفكر الإنساني أصبح حائر ما بين امتلاك بعض الأشخاص الحقيقة المطلقة بين آخرين يشككون في ذلك، فالبعض أكد أن العقل الإنساني لا يصل إلا لحقيقة نسبية ولا يصل للحقيقة المطلقة، والبعض الآخر أكد أن العقل الإنساني لا يستطيع أن يصل إلى أي حقيقة
وتابع: «في العصر اليوناني قال الفلاسفة أن العقل الإنساني لا يستطيع أن يصل إلى أي حقيقة، ولكن الآن نستطيع الوصول إلى حقيقة نسبية من خلال إدراك الواقع الخارجي سواء بالحواس أو العقل، ولكن لا يوجد شيء يسمى الحقيقة المطلقة، لأن المعرفة مسألة نسبية تتفق مع العقل».
وبعد أن إستعرضنا رأي الأديان السماوية في مفهوم الحقيقة المطلقة , وبعد إستعراض رأي الباحثين في هذا الشأن , والذي أجمع أن الشخص الذي يظن إنة مالك للحقيقة المطلقة هو في حقيقة الأمر داخل دوامة وهم مطلق , ساهم فية دوافع مرضية , أو نظرة قاصرة , لأن الإنسان السوي يدرك بفطرتة نسبية الحقيقة و أن الإنسان مهما إجتهد في معرفة الحقيقة فهو يجتهد في إدراك نظرتة للحقيقة ليس إلا.
وعندما نجد في مجتمعاتنا من هم متوهمين بأنهم أصحاب الحقيقة المطلقة دون سواهم ,ليس ذلك فحسب بل نجد المتوهم يحاسب مخالفية لإدراكهم الإيماني بنسبية الحقيقة.
لذا وددت أن أطرح ذلك علي من هم في ثوب الوهم لدرجة أن صدقوا أنهم مالكي الحقيقة الكاملة دون سواهم