د. عبد المنعم السعيد
وصايا ملف الإستثمار
لا أظن أن دولة رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى يحتاج إلى توصية فيما يتعلق بملف الاستثمار الذى أضيف إلى الأعباء القائمة عليه فى إدارة مجلس الوزراء، فضلا عن الملف الآخر للإصلاح الإدارى. تاريخ دولة الرئيس كوزير للإسكان ورئيس لمجلس الوزراء كله فيه الكثير مما يبعث على التقدير لرؤيته الاستراتيجية فى معالجة الأمور، وقدرته العملية على تحويلها إلى واقع يمكن مشاهدته بالعين المجردة ولا يحتاج إلى برهنة لأنه مكون من خرسانة وحديد وصلب، وهو فى النهاية عمارة وتعمير وتنمية لها معدل نمو وتلبية احتياجات معروفة. ملف الاستثمار ربما يكون أكثر تعقيدا من كل ما سبق لأن المقصود به ليس الاستثمارات العامة الجارية فى الدولة بالفعل لأن هذه إما أنها ينفق عليها وتنفذ بمعرفة الدولة أو القطاع العام أو القوات المسلحة، وإنما تلك الاستثمارات الجديدة الخاصة التى يقوم بها القطاع الخاص الداخلى والخارجى والتى تعنى تدفقات مالية ومهارات بشرية ونقلات تكنولوجية تتحول على أرض مصر إلى مشروعات زراعية وصناعية وخدمات متنوعة. مثل ذلك من الطبيعى أن يساهم فى التشغيل وفى تقليل التضخم ومن خلال الصادرات يوفر المزيد من العملات الصعبة وزيادة الاحتياطيات الوطنية. وفى تجربة التنمية العالمية فإن الاستثمارات الأجنبية لعبت دورا فارقا فى نقل دول من التخلف إلى التقدم، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الجهل إلى العلم. والأمثلة معروفة فى الصين والهند وأوروبا الشرقية ودول جنوب شرق وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية كلها. وفى الواقع أنه لا توجد دولة متقدمة واحدة فى العالم إلا وكان جزء هام من تقدمها تدفقات رأس المال الأجنبى إليها سواء كان ذلك فى شكل مشروعات، أو سياحة، أو رؤوس أموال وجدت فى الدولة المضيفة أمنا وأمانا لها ولأموالها تستخدمها متى وأين تريد وكيفما تسعى. ولعل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى يكون سببه الذى لا يلقى عليه ضوء ليس الرغبة فى تحالف أطلسى مع الولايات المتحدة، وإنما لأن الاتحاد كان يعنى تدفقات مالية من بريطانيا إلى دول الاتحاد الفقيرة؛ بينما بات خروجها منه تدفقات مالية استثمارية من كل العالم إلى بريطانيا.
الأيام وحدها سوف تثبت مدى الحكمة فى القرار البريطانى؛ وما يهمنا هو أن اعتمادنا فى الاستثمار القومى خلال السنوات السابقة قام على الموازنة العامة، والاقتراض الداخلى والخارجى، والمعونات والمنح الأجنبية، والقدرات الخاصة للقوات المسلحة. كل ذلك فى مجموعه حقق لنا معدل النمو الذى نعرفه ٥.٦٪ سنويا، وما تحقق خلال المرحلة الأولى من الإصلاح الاقتصادى من إنجازات تظهر فى المؤشرات الكلية للاقتصاد. الآن فإن المرحلة الثانية تبدأ من حقيقة أننا قد استخدمنا كل ما يمكن استخدامه من المصادر المشار إليها، ولن يمكن تحقيق معدلات نمو أعلى، فضلا عن الهدف الكبير لمعدل نمو قدره ٨٪ سنويا ما لم تتح تدفقات رأسمالية كبيرة تبدأ من الداخل وتنتهى بالخارج. ولذا فإن الوصية الأولى لدولة رئيس الوزراء أن نقطة البداية فى الاستثمار هى للقطاع الخاص المصرى، كل فيما يخصه من إنتاج وتصدير وتطوير بحيث تخرج الشركات المصرية من إطاراتها العائلية الضيقة إلى ساحة الاقتصاد العام فى مصر، أى دخول أسهمها إلى البورصة المصرية. ومن المفهوم أن تهتم الدولة بالمشروعات المتوسطة والصغيرة، وحتى الاقتصاد غير الرسمى، ولكن هذه وتلك لن يقدر لها الانطلاق والنمو إلى شركات كبرى ما لم تصب منتجاتها فى شركات كبرى وعملاقة لها علاقة بالسوق الداخلية والأسواق الخارجية.
الوصية الثانية هى أن مناخ الاستثمار المصرى يعبر عنه للوهلة الأولى بالترتيب المصرى فى تقرير ممارسة الأعمال وهو ١١٤، ولكن ذلك ربما يحتاج تفصيلا فى مقال آخر، وما يهمنا هنا هو أن الوهلة الثانية للمناخ المصرى فى عيون الاستثمار الأجنبى هى لبلد متوتر رغم أنه بلد عريق ينبغى أن تتولد فيه ثقة آلاف السنوات من الاستمرار والاستقرار. لقد حققت مصر نصرا كبيرا على الإرهاب، وعلى جماعة الإخوان الإرهابية، وعلى كافة أشكال التحريض المتشوق للفوضى والمنازعة الداخلية؛ كل ذلك عليه أن ينعكس على المزاج المصرى العام. استخدامنا المفرط كلمة الحرب ضد الإرهاب والتطرف، واعتبار كافة قضايا الوطن من قضايا الأمن القومى من التعليم إلى الصحة إلى النظافة فيه حالة من التوتر تدعو المستثمر الأجنبى إما إلى الذهاب إلى أسواق أخرى، أو الانتظار حتى تكون الأمور أكثر هدوءا وأقل توترا. ما لا يجب أن ننساه أبدا هو الثقة بالنفس وأن لدينا قصة عادلة للتنمية، ومحاولة باسلة للخروج من العصور الضيقة القديمة إلى العصور الرحبة الجديدة فى العالم. وجزء كبير من هذه الثقة يكمن فى أهدافنا الطموحة، فليس كثيرا على مصر أن يكون هدفها للعام القادم أكثر من ٢٠ مليار دولار من الاستثمارات العالمية، و٤٠ مليون سائح، وعندما يكون لدينا هذه الأهداف فإن السؤال المنطقى بعدها هو كيف يمكن تحقيقها؟ والإجابة هى كيف فعلها الآخرون، وما علينا إلا أن نفعل ما فعلوه مضافا له الاستفادة من الأخطاء التى ارتكبوها.
الوصية الثالثة هى تحقيق ما هو بديهى فى الدولة التى يرغب الاستثمار الأجنبى فى الوصول إليها، فهو من الطبيعى ألا يستثمر إلا فى البلاد التى سوف يحقق فيها أعلى أرباح ممكنة، وحيث الإجراءات سلسة والطاقة متوفرة، والعمالة ماهرة، وإجراءات التقاضى مفهومة وسريعة، والنظام البنكى على درجة من الكفاءة، والعملة مستقرة. ولكن كل ذلك لن يكون كافيا إذا وجد الدولة لا تعرف كيف تتخلص من القمامة، أو أن مطاراتها لا تزال تستخدم طرقا بدائية فى دخول وخروج الركاب، أو أنها متشددة فى منع تصوير الأفلام السينمائية بينما بلدان مثل الإمارات العربية المتحدة تمول هذه الأفلام، وترحب تونس والمغرب وتركيا بها؛ أو أن الدولة وعلى مدى عشر سنوات لا تزال تضع قيودا تصل أحيانا إلى المنع للجماهير من حضور مباريات كرة القدم. كل ذلك يبدو أنه لا يقع فى ملف الاستثمار، ولكنه يقع فى قلب كل السياسات العامة، وما يبدو صغيرا أو هامشيا فيها يكون كبيرا ومتضخما فى عيون المستثمر محليا أو أجنبيا. قصة هذه التوصية كلها هى قصة التنمية الشاملة فى مصر كلها، والتى تتطلب ثقة بالنفس، واستعدادا للانتهاء من مشكلات
انتهى منها العالم، والدول المنافسة لنا منذ وقت طويل.
المصدر: المصري اليوم
انتهى منها العالم، والدول المنافسة لنا منذ وقت طويل.
المصدر: المصري اليوم