أحوال نقابية | قطع الأعناق و لا قطع الأرزاق
مَثَلٌ يَرُوجُ عند العامة، وكأنه حُكم شرعي مُسلَّم به، وهو لا أصل له في الدين.. إذ إن قطع الأعناق بغير حق شرعي مُحرَّم، وكذلك الأرزاق لا يقطعها غير الله، عزَّ وجلَّ، وما دام الإنسان حيّا، فرزقه مضمون: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا)، وفي الحديث: «لَا تَسْتَبْطِئُوا الرِّزْقَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَبْدٌ يَمُوتُ حَتَّى يَبْلُغَهُ آخِرُ الرِّزْقِ»، لا بل: «إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجْلُهُ»! (البيهقي)، فلا بدَّ أن نعتقد اعتقاداً راسخاً أن اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ، القائل: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ)، جاء في تفسير ابن كثير: «من هذا الذي إذا قَطع الله عنكم رزقه يرزقكم بعده؟»، فتصبح عبارة «قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق»، عبارة خاطئة، خاصة، إذا كان قائلها يعتقد بأن أحداً غير الله يملك له رزقاً أو منعاً. ولكن، للأسف، لا يزال هذا المثل متداولاً بين الناس.. وإذا وضَّحت لقائله بأنه لا أصل له في الدين، لأن الرزق عند الله لا يقطعه إلا هو، وأن الأعناق إذا انقطعت ومات الإنسان انتهى أجله، وبالتالي انتهى رزقه! قال: أقصد المتسبّب في سدِّ باب رزقي! ويقول آخر: قد نضطّر أحياناً لقول هذا المثل في وجه الظَلمة، الذين يريدون باطلاً وهم يتأولونه! وهذه تبريرات باهتة، فالمسلم، يعلم أنه لا مانع لما أعطى الله، ولا مُعطي لما مَنَع، لا بل، نعلم جميعاً أن الناس لا يَملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة.. فإذا كانوا كذلك، فكيف يملكونه لغيرهم؟! وفي الحديث: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» (أحمد). وإذا حاولنا الحديث عن بعض المتسبِّبين في «قطع الأرزاق»، ظُلماً وعدواناً، لا عن الرزق نفسه، الذي هو بيد الله وحده – سبحانه وتعالى - نجد أن القلم يحتار، وتخجل النفس، في وصفهم.. وهم كُثُر! وأقل ما يُقال عنهم: أنهم لا يراعون حقوق الناس كما بيَّنها الله، ولا القوانين التي وضعها ولاة الأمر، ولا المبادئ الإنسانية، ولا القيم الأخلاقية.. يستعينون بأساليب، وحيل، تتطوَّر يوماً بعد يوم، و»بفتاوى» ما أنزل الله بها من سلطان، باطنها الكذب وظاهرها الخداع! ولكن، يجب التفريق، بين من يرتكز على معنى هذا المثل وهو مجدّ ومجتهد، وباذل لما يتوجب عليه، ثم يُظلَم بكف يده عن عمله، فيصبح «قطع رزقه»، هنا، كقطع عنقه، أي يصبح، معنوياً ميِّتاً! وبين من يتحجَّج بهذا المثل، وهو مستهتر يستحق أن تكف يده لإهماله، ولكنه لا يموت معنوياً! وهذه المفاضلة بين من يقوم بالعمل والارتقاء به، وبين من هو مهمل لواجباته التي أوكلت إليه، نجدها في قوله تعالى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)، وهذا تفضيل للأول، وقد يدخل زجر الثاني في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ). فالله، سبحانه وتعالى، طيّب لا يقبل إلا طيباً، ومن أَبطَلِ الباطل أن يأخذ الأجير مالاً على عمل لا يقوم به، أما الذي أُبعد عن عمله، فظُلم وأُذي في رزقه، فسوف يكون، ومن حُرم من كفاءاته، يوم القيامة، خصوماً للمُتَسَبِّبين، الذين سيُسألون يوم القيامة، (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)، خاصة، إذا حابى المُتَسَبِّب أحداً على من هو أفضل منه كفاءةً، لغرض في نفسه، لأنه يكون هنا قد خان الأمانة وأضرّ بالمجتمع ككل.. قال الشافعي: اعرف الحقَّ لذي الحقِّ إِذا حقَّ له الحقُّ لا خيرَ فيمن ينكر الحقَّ لذي الحقِّ إذا حقَّ له الحقُّ عزيزي القارئ: رزقك محفوظ ومضمون ما دمت حياً، وما عليك إلا السعي بجد وإخلاص، بعد تقوى الله إن كنتَ غافلاً، يأتيك بالأرزاقِ من حيث لا تدري.. واسمع لقول الشافعي: توكَّلتُ في رِزْقي عَلى اللهِ خَالقي وأَيْقَنْتُ أَنَّ اللهَ لا شَكَّ رَازِقي وَمَا يَكُ مِنْ رِزْقِي فَلَيْسَ يَفُوتَني وَلَوْ كانَ في قَاعِ البِحَارِ العَوامِقِ سَيأتي بِهِ اللهُ العظيــــــــمُ بِفَضْلـــــِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِني اللِّسانُ بِنَاطِقِ فَفي أَي شيءٍ تَذْهَبُ النَّفْسُ حَسْرَةَ وَقَدْ قَسَمَ الرَّحْمَنُ رِزْقَ الخَلائِقِ؟!